الثلاثاء، 17 يونيو 2008

وقفات مع ذكريات ( من 91 إلى 95 ) :

بسم الله
عبد الحميد رميته , الجزائر

91 – علاجُ نفسه هو الواجبُ :
قبل البدء بمعالجة الناس يجب على من أراد ذلك أن يعرض نفسه على أحد الرقاة من أهل الثقة كي يرقيه للتأكد من خلوه من الأمراض التي تعالج بالرقية الشرعية,فإذا بدا بأنه سليم فليرق غيره بدون حرج وإلا فعلاج نفسه هو الواجب والمطلوب.وهذا الشخص إن أصرَّ على علاج الغير وهو مريض فإنه يكون قد فتح بابا لا يُسد غالبا إلا بعد فوات الأوان.وإذا جاز للطبيب العضوي أن يعالج غيره حتى ولو كان هو مريضا,فلا يجوز في مجال الرقية أن يرقي مريض ٌ(كالمُصاب بجن مثلا) مريضا مثله مصابا بسحر أو عين أو جن.نقول هذا لأن بعض الناس الذين كانوا مرضى نلاحظ أن منهم من يتحول فجأة إلى أن يصبحوا معالجين لغيرهم.وعندما تتطور بهم الأحوال ويبدءون بعلاج غيرهم يتضح أنهم مرضى وأن فيهم جن(مثلا) هم الذين أمروهم بأن يعالجوا الناس.ولا يمكن للجن أن يأمر شخصا إنسيا بعلاج الغير حبا فيه ولا حبا في الإسلام والمسلمين ,ولن يأمره بالعلاج إلا بالطريقة غير الشرعية حتى ولو كان فيها شيء من القرآن والحديث الصحيح. والتجربة تؤكد على أن الذين يأمرهم الجن بعلاج الغير هم غالبا سذج وضعاف إيمان وجاهلون بالإسلام.وعلى سبيل المثال أتت إلى امرأة من ضواحي ميلة تعاني من جملة أعراض بدا لي بأنها يمكن أن تكون أعراض مس من الجن وقالت لي بأنها ترى امرأة (كأنها جنية) تطلب منها أن تبدأ في معالجة الناس بالقرآن على اعتبار "أنك امرأة مباركة ويدك فيها الخير و.." فرقيتها وحذرتها من ممارسة الرقية لغيرها (أما لنفسها فلا بأس) لأنها جاهلة من جهة ومريضة من جهة ثانية ولأن الجن يريدون من خلالها أن ينشروا الدجل والشعوذة من جهة ثالثة. استمعت إلي المرأة وقبلت مني وأخبرتني بعد مدة بأنها شفيت والحمد لله رب العالمين مما كانت تعاني منه .

92-كلمة فاحشة في الحمام :
تعودتُ من سنوات على أن أذهب مع أساتذة وعمال ومراقبين و...في رحلة جماعية من خلال حافلة صغيرة تحملنا – حوالي 25 شخصا- في الصباح ( بعد الصبح ) وترجع بنا في المساء ( قبيل المغرب ) . تتم هذه الرحلة بمبادرة من البعض منا , وتكاليفُها المادية نتحملها نحنُ من جيوبنا , وتتكرر كل حوالي 3 أشهر تقريبا . تعودنا على الذهاب إلى الحمام في مدينة من المدن...ونقضي الرحلة على أحسن حال بين الحمام والصلاة جماعة في أحد المساجد والغذاء الجماعي وسط الطبيعة وسماع الأناشيد الدينية وحكاية النكت الهادفة ومناقشة القضايا الدينية المختلفة وتبادل المعلومات العامة والإسلامية في الفقه والآداب والأخلاق والسيرة والتفسير و...وجرت العادة على أن أكون أنا الموجه لأغلب النقاش من أول رحلتنا إلى نهايتها – وأما الأمور التقنية فلها أهلها المناسبون-, خاصة وكل الإخوة الذين أقضي معهم الرحلة يحترمونني كل الاحترام , والحمد لله رب العالمين .
وفي رحلة من الرحلات رمى أحد الإخوة – وهو في مسبح الحمام - ماء في وجه آخر وهو يمازحه , ولكن الآخرَ دخل له ماءٌ في فمه فبلعه , ونتيجة لذلك قال كلمة فاحشة للآخر . ونظرا لأنها هي الكلمة الفاحشة الأولى التي يقولها واحدٌ أمامي في رحلاتنا المختلفة ( تعودَ كلُّ الإخوة على أن لا يقولوا أبدا كلمة فاحشة أمامي , لما بيني وبينهم من الاحترام والتقدير ) , فإن كلَّ الإخوة نظروا إلى القائل منكرين , ونظروا إلي منتظرين ومتوجسين من رد فعلي . سكتُّ وأعرضتُ عن القائل وأخذتُ ثيابي وخرجتُ من الحمام وما قلتُ شيئا . بقي البعضُ من الإخوة في الحمام وخرج الآخرون بعد خروجي أنا مباشرة . وعلى خلاف العادة قضيتُ بقيةَ اليومِ
( من العاشرة والنصف صباحا وحتى قبيل المغرب ) ساكتا . وبسكوتي سكت الجميعُ : سكتوا بدون أن أقول لهم " أسكتوا" . سكتوا قبل وبعد وأثناء الغذاء , وسكتوا قبل وبعد صلاتي الظهر والعصر , وسكتوا أثناء تنقلنا من خنشلة إلى أم البواقي وإلى قسنطينة وإلى ميلة ( حوالي 180 كلم ) . سكتوا , فلا نكت ولا حديث عن الدين ولا عن الدنيا , وحتى الأكل والشرب اكتفى الجميعُ بالأكل القليل والشرب اليسير. سكتوا ليعبروا لي – بطريقة غير مباشرة – عن تضامنهم معي وعن استنكارهم للكلمة البذيئة التي قيلت وعن استيائهم ممن قالها وممن دفعه لقولها . وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي سمعنا فيها في رحلة من رحلاتنا كلمة لا يحبها الله ورسوله , ومن تلك المرة مُنِع من قال ما قال من الذهاب معنا في رحلة أخرى , وعزم الإخوةُ كلهم على أن يكون هذا هو الخطأ الأول والأخير بإذن الله تعالى . ومنذ ذلك الحين لم أنسَ تلك الرحلةَ التي سمعتُ فيها ما لا أحبُّ ولكنني تعلمتُ منها الكثير مما أحبُّ , ومنه :
1- إن كنتَ مستقيما على أمر الله , فإن الناس سيحترمونك وإن لم يلتزموا بكل ما التزمتَ به أنتَ .
2- نزِّه سمعكَ عن سماع الحرام يُسخر اللهُ لك أولادَ الحلال ليعملوا باستمرار من أجل أن يُبعدوك عن سماع أي قبيح .
3- فرقٌ كبير بين الراحة المزيفة التي يحس بها من يقولُ أو يسمعُ الكلامَ البذيء الفاحش , والراحة والسكينة والطمأنينة التي يعيشُها من لا يسمعُ في حياته إلا طيبا .
4- إذا أردتَ أن يحبكَ الناسُ فأحببْ أنتَ اللهَ أولا وقبلَ ذلك .
5- مطلوبٌ منا باستمرار أن نرفع الناس إلى المستويات النظيفة , لا أن ننزل عندهم إلى المستويات الهابطة والساقطة من منطلق أن " الجمهور عايز كده".
والله أعلم بالصواب , وهو وحده الموفق والهادي لما فيه الخير.

93- مريضُ وهم :
إن التفكير - في المرض - الذي ينفع صاحبَه مطلوب كالتفكير في المرض من أجل مداواته أو الوقاية منه أو من أجل التغذية الصحية التي تقينا الوقوع في هذه الأمراض أو تخلصنا منها.وأما التفكير في المرض لغير ذلك فقد يضر صاحبه.ولقد عاينت بنفسي أشخاصا يزيد مرضهم كلما فكروا فيه وتخف أعراضه كلما تجنبوا التفكير فيه,بل إنني رأيت ناسا ليس بهم شيء وعندما يفكرون في المرض بلا فائدة يمرضون وكأن التفكير في المرض أصبح استدعاء غير مباشر للمرض.هذا من جهة ومن جهة أخرى قد لا يكون الشخص مريضا أساسا ومع ذلك يبدو له بأنه مريض,ولقد عاينت شيئا من ذلك عند كثير من الأشخاص خلال سنوات طويلة مارست الرقية الشرعية خلالها.جاءني أهل شاب من أجل رقية لطالب يدرس في الجامعة قالوا عنه بأنه طريح الفراش منذ أسبوعين.أخبرني أهله بأنه في كل مرة يشتكي من أوجاع في جزء من جسده (والأوجاع تنتقل في كل مرة من جزء إلى جزء آخر) ,كما أخبروني بأنه زار خلال أسبوعين 7 أطباء (بعضهم عام والبعض الآخر اختصاصيون) وأكد له جميعهم بأنه سليم تماما.سمعت منه ومن أهله فقلت له:"أكاد أجزم بأنه ليس بك شيء عضوي كما أنه ليس بك عين أو سحر أو جن, وأكاد أجزم بأنه يبدو لك بأنك مريض وأنت لست مريضا".قال لي "ارقني وسترى",فقلت له"لن أرقيك إلا بشرط أن لا تشتكي بعد الآن من شيء إذا أكدتُ لك بعد الرقية بأنه ليس بك شيء ,وحتى إذا اشتكيت فلن يسمع منك واحد من أهلك", قال:"إذا حدث ذلك أطلب زيارة طبيب واحد وللمرة الأخيرة".قلت له-بعد أن أخذت الإذن من أهله :"اتفقنا".رقيته فلم يظهر عليه شيء,ثم أخذه أهله عند أحد الأطباء في نفس اليوم فأخبره-بعد الفحص – بأنه ليس به شيء.وكم كانت فرحتي كبيرة عندما رأيته في أمسية ذلك اليوم وبالضبط بعد العِشاء رأيته يتجول خارج بيته مع البعض من أصدقائه وهو سليم ومعافى مما كان يعاني منه من وسواس , والحمد لله ثم الحمد لله .
94 – " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " :

* ما أعظم الراحة التي يُحس بها المرءُ وهو يُقابل السيئةَ بالحسنة , لوجه الله وحده , لا طمعا في دنيا يُصيبُها ولا خوفا من شرِّ بشر. إن هذه الراحةَ أعظمُ بكثير من تلك التي يمكن أن يحسَّ بها من يثأرُ , أو على الأقل من يقابلُ السيئةَ بمثلها , مع ملاحظة أن مقابلة السيئة بمثلها أمرٌ جائز في ديننا ولكنه خلافُ الأولى .
** مُهم جدا جدا جدا :
1-أن نفعل الخير ولو فيمن يبدو لنا بأنه لا يستحق الخيرَ .
2-وأن نفعل الخير فيمن لم يُـقدم لنا خيرا .
3-وأن نفعل الخير ولو فيمن صنع معنا وفينا شرا .
هو صعبٌ جدا , ولكنه مهم جدا في ديننا لأن فيه بإذن الله من الأجر ما فيه .
هذا مع وجوب التفريق بين حقوق الله التي لا يجوز التسامح فيها وحقوقنا التي يستحب التسامح فيها , وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمة من حرمات الله , وكان كذلك لا ينتقم لنفسه قط .
جاءتني امرأةٌ منذ سنوات من أجل رقية , جاءتْ مع أحدِ محارمها من الرجالِ . وعندما سألتُـها عن عملِ زوجها أطرقتْ ولم تجبْ , فأعدتُ السؤالَ مرة أخرى فقالتْ على استحياء " هو يعمل في الأمن العسكري!" , قلتُ لها " وماذا في ذلك ؟!. رجال الأمن العسكري ليسوا كلهم سيئين" , ثم سألتُ " ولماذا لم يأتِ زوجكِ معكِ الآن ؟!" , فسكتتْ برهة ثم قالتْ وهي تتلعثمُ " إن زوجي ممن كانوا يُعذِّبونك أيام زمان في الزنزانة , ولذلك استحيى أن يأتي معي فترفضَ أنتَ أن ترقيني ". ابتسمتُ وقلتُ لها " أنتما مخطئان في العنوان يا هذه . سلِّمي على زوجكِ وقولي له بأنه إن احتاجني هو ( لا أنتِ) من أجل أية خدمة يمكن أن أقدمها له فأنا تحت التصرف , ولا شكرَ على واجب . قولي له يا هذه بأنني حريصٌ ما استطعتُ على أن لا أحملَ في قلبي غلا أو حقدا أو غشا ...لأي كان من المسلمين. أما ما فعلهُ زوجُك معي في السجن فبينه وبين ربه , وإن تاب فإنني أسأل الله أن يسامحه دنيا وآخرة . وصدق الله العظيم إذ يقول " وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ".
والله أعلم بالصواب .

95 – المبالغة في التعلق بأشخاص الرقاة :
إن الكثير من الناس المرضى يبالغون في التعلق بأشخاص الرقاة إلى درجة غير معقولة ولا مقبولة ولا مستساغة ولا شرعية ولا منطقية .
* أذكر بالمناسبة رجلا أخبرني من أيام أن ابنته في حال خطرة جدا (يكفي أنها لم تأكل من حوالي أسبوع) زارت أطباء وما أفادوها في شيء.طلب مني أن أعطيه موعدا لأرقي ابنته . اعتذرتُ إليه بأنني مشغول وأعطيته إسمي راقيين في ميلة ومكان إقامة كل منهما, وقلت له: "إذا لم تجدهما أو وجدتهما مشغولين فارجع إلي أو اتصل بي عن طريق الهاتف لأعطيك موعدا لابنتك"فسمعتُ منه جوابا عجيبا وغريبا فيه من الجهل ما فيه:" أنا نويت الرقية لابنتي عندك أنت بالذات.اعطني موعدا للغد لترقي ابنتي أنت بالذات . وحتى لو ماتت ابنتي في الغد فلست مستعدا لأن آخذها عند غيرك ليرقيها اليوم !!! ".
* وقال لي آخر في يوم من الأيام من أجل أن أرقي زوجته: "والله لن يرقيها غيرك , وإذا أخذتها عند غيرك فإنني سأضطر للكذب عليها بأن أقول لها " هذا هو عبد الحميد رميته " !!!.
* جاءني رجل راق لأرقي زوجته,وعندما قلتُ له : "جرب معها أنت , فإذا لم تنفع يمكن أن أرقيها أنا " قال لي : "إنها هي التي أصرت على أن ترقيها أنت بالذات".
*وجاءني آخر لأرقيه وقال لي : "والله لن أذهب عند أحد غيرك ليرقيني حتى ولو كان صديقي أو أخي أو قريبي أو جاري راقيا ".
وإذا كنتُ أجد عذرا لشخص واحد حين يقول: " أنا نويتُ أن أذهب عند فلان الراقي بالذات أو أنني قصدتُه هو بالذات أو أن من أثق فيه أرسلني إليه هو بالذات" , لأنني أرى أن هذه الثقة من المريض في مُعالج معين قد تُساهم مساهمة لا بأس بها في العلاج لأنها يمكن أن تزيد من فعالية الرقية وكذا من سرعة الشفاء من المرض , لكنني لا أجد العذر لعشرة أشخاص آخرين يقولون نفس القول لكن بإصرار أكبر , لأن المبالغَة في هذه النية أو تعلق المريض بالراقي إلى هذا الحد المبالغ فيه قد يوقع الناس المرضى أو أهاليهم- خاصة منهم النساء - في الشرك الأصغر أو الأكبر والعياذ بالله الذي قد يُبطل الأعمال ويُؤخر الشفاء ,ويصبح كذلك مصيبة كبيرة تجب محاربتها ومجاهدتها بكل الطرق الشرعية الممكنة مهما وجدنا في طريق ذلك من عقبات. وفي نفس الصدد أقول بأن بعض الناس يأتونني طلبا لرقية فأقول للواحد منهم " أنا مشغول بالرقية أكثر بكثير من غيري ", " كل الرقاة أسباب والشافي هو الله وحده "," إذا ألححتَ على أن أكون أنا بالذات الذي أرقيك فإن الله يمكن أن لا يعطي الشفاء على يدي لينبهك إلى أن الشفاء بيده هو يجريه على يد من يشاء هو لا من أشاء أنا أو تشاء أنت ", " قد أعطيكَ أنا موعدا بعيدا وقد يعطيكَ راق آخر موعدا (من أجل الرقية) أقرب" , "أنا أدلك على من يرقي مثلي بطريقة شرعية ويستحيل أن أرسلك إلى مشعوذ أو دجال أو راق يرقي بالطرق المنحرفة" , " إذا ذكرتَ لي أشخاصا شفاهم الله على يدي ولم يشفهم على يدي غيري , فإنني أذكر لك في المقابل كثيرين لم يُشفوا على يدي وشفاهم الله على أيدي غيري ", " إذا شُفي شخص على يدي فليس شرطا أن يُشفى كل شخص مريض يأتيني لأرقيه , ويستحيل أن تجد في الدنيا كلها اليوم أو بالأمس أو في الغد راقيا أو طبيبا أو .. يُشفى على يده كل من يقصده للعلاج , وإلا فإنه قد يصاب بالغرور ويدعي أنه إله والعياذ بالله تعالى من الكفر بعد الإيمان ". وأظن بعد طول حديث معه بأنني أقنعته لأن كلامي شرعي ومنطقي , لكنني بمجرد الانتهاء من كلامي يرد علي في الغالب قائلا : "ومع ذلك - أي مع كل ما سمعت منك- أرجوك أن ترقيني أو تعطيني موعدا من أجل رقية "!.
ومنه فإننا نقول : يا ناس بالله عليكم لا تبالغوا في التعلق بالأشخاص , وتعلقوا عوضا عن ذلك بربِّ الأشخاص أولا وأخيرا , يعطكم الله ما تتمنوا منه في الدنيا وفي الآخرة . والله أعلى وأعلم .

ليست هناك تعليقات: